سورة يونس - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


{الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)}
{بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم الر} بتفخيم الراء المفتوحة وهو الأصل وأمال أبو عمرو وبعض القراء إجراء لألف الراء مجرى الألف المنقلبة عن الياء فإنهم يميلونها تنبيهًا على أصلها، وفي الإمالة هنا دفع توهم أن را حرف كما ولا فقد صرحوا أن الحروف يمتنع فيها الإمالة، وقرأ ورش بين بين، والمراد من {الر} على ما روى جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنا الله أرى، وفي رواية أخرى لنها بعض الرحمن وتمامه حم ون، وعن قتادة أنها بعض الراحم وهو من أسماء القرآن، وقيل: هي أسماء للأحرف المعلومة من حروف التهجي أتى بها مسرودة على نمط التعديد بطريق التحدي وعليه فلا محل لها من الإعراب، والكلام فيها وفي نظائرها شهير.
والأكثرون على أنها اسم للسورة فمحلها الرفع على أنها خبر لمبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة بكذا وهو أظهر من الرفع على الابتداء لعدم سبق العلم بالتسمية بعد فحقها الإخبار بها لا جعلها عنوان الموضوع لتوقفه على علم المخاطب بالانتساب، والإشارة إليها قبل جريان ذكرها لصيرورتها في حكم الحاضر لاعتبار كونها على جناح الذكر كما يقال في الصكوك: هذا ما اشترى فلان، وجوز النصب بتقدير فعل لائق بالمقام كاذكر واقرأ وكلمة {تِلْكَ} إشارة إليها أما على تقدير كون {الر} مسرودًا على نمط التعديد فقد نزل حضور مادتها منزلة ذكرها فأشير إليها كأنه قيل: هذه الكلمات المؤلفة من جنس هذه الحروف المبسوطة الخ، وأما على تقدير كونها اسمًا للسورة فقد نوهت بازشارة إليها بعد تنويهها بتعيين اسمها أو الأمر بذكرها أو بقراءتها. وما في اسم الإشارة من معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتها في الفخامة ومحله الرفع على أنه مبتدأ خبره قوله عز وجل: {الكتاب الحكيم} وعلى تقدير كون {الر} مبتدأ فهو إما مبتدأ ثان أو بدل من الأول، والمعنى هي آيات مخصوصة منه مترجمة باسم مستقل، والمقصود ببيان بعضيتها منه وصفيتها بما أشير إلى اتصافه به من النعوت الفاضلة والصفات الكاملة، والمراد بالكتاب إما جميع القرآن العظيم وإن لم ينزل بعد إما باعتبار تعينه وتحققه في العلم أو في اللوح أو باعتبار نزوله جملة إلى بيت العزة من السماء الدنيا وإما جميع القررن النازل وقتئذٍ المتفاهم بين الناس إذ ذاك فإنه كما يطلق على المجموع الشخصي يطلق على مجموع ما نزل في كل كذا قال شيخ الإسلام.
وأنت تعلم أن المشهور عن السلف تفويض معنى {الر} وأمثاله إلى الله تعالى وحيث لم يظهر المراد منها لا معنى للتعرض لإعرابها، وقد ذكروا أنه يجوز في الإشارة أن تكون لآيات هذه السورة وأن تكون لآيات القرآن ويجوز في الكتاب أن يراد به السورة وأن يراد القرآن فتكون الصور أربعًا.
إحداها: الإشارة إلى آيات القرآن والكتاب عنى السورة ولا يصح إلا بتخصيص آيات أو تأويل بعيد. وثانيها: عكسه ولا محذور فيه. وثالثها: الإشارة إلى آيات السورة والكتاب عنى السورة. ورابعها: ازشارة إلى آيات القررن والكتاب عنى القرآن، ومرجع إفادة الكلام عليهما باعتبار صفة الكتاب الآتية، وجوز الإشارة إلى الآيات لكونها في حكم الحاضر وإن لم تذكر كما في المثال المذكور آنفًا. وفي «أمالي ابن الحاجب» أن المشار إليه لا يشترط أن يكون موجودًا حاضرًا بل يكفي أن يكون موجودًا ذهنًا. وفي الكشاف في تفسير قوله تعالى: {هذا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] ما يؤيديه، وأوثر لفظ تلك لما أشار إليه الشيخ ولكونه في حكم الغائب من وجه ولا يخلو ما ذكروه عن دغدغة، وأما حمل الكتاب على الكتب التي خلت قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما كما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة فهو في غاية البعد فتأمل، وقوله تعالى: {الحكيم} صفة للكتاب ووصف بذلك لاشتماله على الحكم فيراد بالحكيم ذو الحكمة على أنه للنسبة كلابن وتامر، وقد يعتبر تشبيه الكتاب بإنسان ناطق بالحكمة على طريق الاستعارة بالكناية وإثبات الحكمة قرينة لها، وجوز أن يكون وصفه بذلك لأنه كلام حكيم فالمعنى حكيم قائله فالتجوز في الإسناد كليله قائم ونهاره صائم، وقيل: لأن آياته محكمة لم ينسخ منها شيء أي بكتاب آخر ففعيل عنى مفعل وقد تقدم ماله وما عليه {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا} الهمزة لإنكار تعجبهم ولتعجيب السامعين منه لوقوعه في غير محله، والمراد بالناس كفار العرب، والتعبير عنهم باسم الجنس من غير تعرض لكفرهم الذي هو المدار لتعجبهم كما تعرض له فيما بعد لتحقيق ما فيه من الشركة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم وتعيين مدار التعجيب في زعمهم ثم تبيين خطئهم وإظهار بطلان زعمهم بإيراد الإنكار، واللام متعلقة حذوف وقع حالًا من {عَجَبًا} كما هو القاعدة في نعت النكرة إذا تقدم عليها، وقيل: متعلقة بعجبًا بناءً على التوسع المشهور في الظروف، وبعضهم جعلها متعلقة به لا على طريق المفعولية كما في قوله:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ***
بل على طريق التبيين كما في {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 32] وسقيًا لك ومثل ذلك يجوز تقديمه على المصدر. وأنت تعلم أن هذا قول بالتعلق قدر في التحقيق، وقيل: إنها متعلقة به لأنه عنى المعجب والمصدر إذا كان عنى مفعول أو فاعل يجوز تقديم معموله عليه، وجوز أيضًا تعلقه بكان وإن كانت ناقصة بناءً على جوازه، و{عَجَبًا} خبر كان قدم على اسمها وهو قوله سبحانه:


{أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)}
{أكَانَ للنَّاسِ عَجَبًا} الهمزة لإنكار تعجبهم ولتعجيب السامعين منه لوقوعه في غير محله، والمراد بالناس كفار العرب، والتعبير عنهم باسم الجنس من غير تعرض لكفرهم الذي هو المدار لتعجبهم كما تعرض له فيما بعد لتحقيق ما فيه من الشركة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم وتعيين مدار التعجيب في زعمهم ثم تبيين خطئهم وإظهار بطلان زعمهم بإيراد الإنكار، واللام متعلقة حذوف وقع حالًا من {عجبًا} كما هو القاعدة في نعت النكرة إذا تقدم عليها، وقيل: متعلقة بعجبًا بناء على التوسع المشهور في الظروف، وبعضهم جعلها متعلقة به لا على طريق المفعولية كما قي قوله:
عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ***
بل على طريق التبيين كما في {هيت لك} [يوسف: 23] وسقيًا لك ومثل ذلك يجوز تقديمه على المصدر، وأنت تعلم أن هذا قول بالتعلق قدر في التحقيق، وقيل: إنها متعلقة به لأنه عنى المعجب والمصدر إذا كان عنى مفعول أو فاعل يجوز تقديم معمولة عليه، وجوز أيضًا تعلقه بكان وإن كانت ناقصة بناء على جوازه، و{عجبًا} خبر {كان} قدم على اسمها وهو قوله سبحانه: {أَنْ أَوْحَيْنَا} لكونه مصب الإنكار والتعجيب وتشويقًا إلى المؤخر ولأن في الاسم ضرب تفصيل ففي تقديمه رعاية للأصل نوع إخلال بتجاوب أطراف النظم الكريم. وقرأ ابن مسعود {عجب} بالرفع على أنه اسم كان وهو نكرة والخبر {عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا} وهو معرفة لأن أن مع الفعل في تأويل المصدر المضاف إلى المعرفة فهو كقول حسان:
كأن سبيئة من بيت رأس *** يكون مزاجها عسل وماء
وحمله بعضهم على القلب، وفي قبوله مطلقًا أو إذا تضمن لطيفة خلاف والمعول عليه اشتراط التضمن وهو غير ظاهر هنا، وحكى عن ابن جني أنه قال: إنما جاز ذلك في البيت من حيث كان عسل وماء جنسين فكأنه قال: يكون مزاجها العسل والماء، ونكرة الجنس تفيد مفاد معرفته، ألا ترى أنك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب أي فإذا الأسد بالباب لا فرق بينهما لأنك في الموضعين لا تريد أسدًا معينًا، ولهذا لم يجز هذا في قولك: كان قائم أخاك وكان جالس أباك لأنه ليس في جالس وقائم معنى الجنسية التي تتلاقى معنى نكرتها ومعرفتها.
ومعنى الآية على هذا كان الوحي للناس هذا الجنس من الفعل وهو التعجب، ولا يخفى أن المصدر المتحصل هو المصدر المضاف إلى المعرفة كما سمعت فاعتباره محلى بأل الجنسية خلاف الظاهر. وأجاز بعضهم الإخبار عن المعرفة بالنكرة في باب النواسخ خاصة سواء كان هناك نفي أو ما في حكمه أم لا.
وابن جني يجوز ذلك إذا كان نفي أو ما في حكمه ولا يجوز إذا لم يكن، وفي الآية قد تقدم الاستفهام الإنكاري على الناسخ وهو في حكم النفي. واختار غير واحد كون كان تامة. و{عجب} فاعل لها و{عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا} بتقدير حرف جر متعلق بعجب أي لأن أوحينا أو من أن أوحينا أو هو بدل منه بدل كل من كل أو بدل اشتمال، والإنكار متوجه إلى كونه عجبًا لا إلى حدوثه وكون الإبدال في حكم تنحية المبدل منه ليس معناه إهداره بالمرة كما تقرر في موضعه، واقتصر في اللوامح على أن {لِلنَّاسِ} خبر كان، وتعقب بأنه ركيك معنى لأنه يفيد إنكار صدوره من الناس لا مطلقًا وفيه ركاكة ظاهرة فافهم، وإنما قيل: للناس لا عند الناس للدلالة على أنهم اتخذوه أعجوبة لهم وفيه من زيادة تقبيح حالهم ما لا يخفى {إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ} أي إلى بشر من جنسهم كقوله تعالى حكاية: {أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 94] وقوله سبحانه: {لَوْ شَاء رَبُّنَا لاَنزَلَ ملائكة} [فصلت: 14] أو إلى رجل من أفناء رجالهم من حيث المال لا من حيث النسب لأنه صلى الله عليه وسلم كان من مشاهيرهم فيه وكان منه كان لا يدفع فهو كقولهم: {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] وفي بعض الآثار أنهم كانوا يقولون: العجب أن الله تعالى لم يجد رسولًا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب والعجب من فرط جهلهم أما في قولهم الأول فحيث لم يعلموا أن بعث الملك إنما يكون عند كون المبعوث إليهم ملائكة كما قال تعالى: {قُل لَوْ كَانَ فِى الارض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولًا} [الإسراء: 95] وأما عامة البشر فعزل عن استحقاق مفاوضة الملائكة لأنها منوطة بالتناسب فبعث الملك إليهم مزاحم للحكمة التي عليها يدور فلك التكوين والتشريع وإنما الذي تقتضيه الحكمة بعث الملك من بينهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحاني والجسماني ليتأتى لهم الاستفاضة والإفاضة وهذا تابع للاستعداد الأزلي كما لا يخفى، وأما في قولهم الثاني فلان مناط الاصطفاء للإيحاء إلى شخص هو التقدم في الاتصاف بما علمت والسبق في إحراز الفضائل وحيازة الملكات السنية جبلة واكتسابًا، ولا ريب لأحد في أن للنبي صلى الله عليه وسلم القدح المعلى من ذلك بل له عليه الصلاة والسلام فيه غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية يقول رائيه:
وأحسن منك لم تر قط عيني *** ومثلك قط لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عيب *** كأنك قد خلقت كما تشاء
وكذا يقول:
ولو صورت نفسك لم تزدها *** على ما فيك من كرم الطباع
وأما التقدم في الرياسة الدنيوية والسبق في نيل الحظوظ الدنية فلا دخل له في ذلك قطعًا بل له إخلال به غالبًا، وما أحسن قول الشافعي رضي الله تعالى عنه من أبيات:
لكن من رزق الحجا حرم الغنى *** ضدان مفترقان أي تفرق
وما ذكروه من اليتم أن رجع إلى ما في الآية على التوجيه الثاني فبطلانه بطلانه وإن أرادوا أن أصل اليتم مانع من الإيحاء إليه صلى الله عليه وسلم فهو أظهر بطلانًا وأوضح هذيانًا وما ألطف ما قيل إن أنفس الدر يتيمه، وقيل للحسن: لم جعل الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم يتيمًا؟ فقال: لئلا يكون لمخلوق عليه منة فإن الله سبحانه هو الذي آواه وأدبه ورباه صلى الله عليه وسلم هذا والوجه الثاني من الوجهين السابقين في قوله سبحانه: {إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ} على الوجه الذي ذكرناه هو الذي أراده صاحب الكشاف ولم يرتضه الجلال السيوطي وزعم أن التحامي عنه أولى، ثم قال: والذي عندي في تفسير ذلك أن المراد إلى مشهور بينهم يعرفون نسبه وجلالته وأمانته وعفته كما قال سبحانه: في آخر السورة التي قبل {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] فإن هذا هو محل إنكار العجب ويكون هذا وجه مناسبة وضع هذه السورة بعد تلك واعتلاق أول هذه بآخر تلك، ونظيره {وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ} [النحل: 113] {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولًا مّنْهُمْ} [البقرة: 129] إلى آخر ما قال، وتعقب بأنه غير ظاهر لأنه وإن كان أعظم مما ذكر لكن السياق يقتضي بيان كفرهم وتذليلهم وتحقير من أعزه الله تعالى وعظمه والذي يقتضيه سبب النزول تعين الوجه الأول هنا. فقد أخرج ابن جرير. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم رسولًا أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم فقالوا: الله تعالى أعظم من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد عليه الصلاة والسلام فأنزل سبحانه: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مّنْهُمْ} الآية، وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا} [النحل: 43] الآية.
فلما كرر الله سبحانه عليهم الحجج قالوا: وإذا كان بشرًا فغير محمد صلى الله عليه وسلم كان أحق بالرسالة فلولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فأنزل الله تعالى ردًا عليهم {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ} [الزخرف: 32] الآية ومنه يعلم أن ما حكى في الوجه الثاني سبب لنزول آية أخرى {أَنْ أَنذِرِ الناس} أي أخبرهم بما فيه تخويف لهم مما يترتب على فعل ما لا ينبغي، والمراد به جميع الناس الذين يمكنه عليه الصلاة والسلام تبليغهم ذلك لا ما أريد بالناس أولًا وهو النكتة في إيثار الإظهار على الإضمار، وكون الثاني عين الأول عند إعادة المعرفة ليس على الإطلاق، و{ءانٍ} هي المفسرة لمفعول الإيحاء المقدر وقد تقدم عليها ما فيه معنى القول دون حروفه وهو الإيحاء أو هي المخففة من المثقلة على أن اسمها ضمير الشأن، والجملة الأمرية خبرها وفي وقوعها خبر ضمير الشأن دون تأويل وتقدير قول اختلاف، فذهب صاحب الكشف إلى أنه لا يحتاج إلى ذلك لأن المقصود منها التفسير وخالفه غير واحد في ذلك وذهبوا إلى أنه لا فرق بين خبره وخبر غيره.
وقال بعضهم: هي المصدرية الخفيفة في الوضع بناءً على أنها توصل بالأمر والنهي والكثير على المنع، وذكر أبو حيان هذا الاحتمال هنا مع أنه نقل عنه في المغني أن مذهبه المنع لما أنه يفوت معنى الأمر إذا سبك بالمصدر.
واعترض بأنه يفوت معنى المضي والحالية والاستقبال المقصود أيضًا مع الاتفاق على جواز وصلها بما يدل على ذلك، وأجيب بأنه قد يقال: بأن بينهما فرقًا فإن المصدر يدل على الزمان التزامًا فقد تنصب عليه قرينة فلا يفوت معناه بالكلية بخلاف الأمر والنهي فإنه لا دلالة للمصدر عليهما أصلًا. وقال بعض المدققين: إن المصدر كما يجوز أخذه من جوهر الكلمة يجوز أخذه من الهيئة وما يتبعها فيقدر في هذا ونحوه أوحينا إليه الأمر بالإنذار كما قدر في أن لا تزني خير عدم الزنا خير، ولا يخفى أن هذا البحث يجري في أن المخففة من الثقيلة لأنها مصدرية أيضًا وأن أقل الاحتمالات مؤنة احتمال التفسير {وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ} بما أوحيناه إليك وصدقوه {أَنَّ لَهُمْ} أي بأن لهم {قَدَمَ صِدْقٍ} أي سابقة ومنزلة رفيعة {عِندَ رَبّهِمْ} وأصل القدم العضو المخصوص، وأطلقت على السبق مجازًا مرسلًا لكونها سببه وآلته وأريد من السبق الفضل والشرف والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة مجازًا أيضًا فالمجاز هنا رتبتين، وقيل: المراد تقدمهم على غيرهم في دخول الجنة لقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة» وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الجنة محرمة على الأنبياء حتى أدخلها أنا وعلى الأمم حتى تدخلها أمتي» وقيل: تقدمهم في البعث وأصل الصدق ما يكون في الأقوال ويستعمل كما قال الراغب في الأفعال فيقال: صدق في القتال إذا وفاه حقه وكذا في ضده يقال: كذب فيه فيعبر به عن كل فعل فاضل ظاهرًا وباطنًا ويضاف إليه كمقعد صدق ومدخل صدق ومخرج صدق إلى غير ذلك، وصرحوا هنا بأن الإضافة من إضافة الموصوف إلى صفته، والأصل قدم صدق أي محققة مقررة، وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق ثم جعل الصدق كأنه صاحبها، ويحتمل أن تكون الإضافة من إضافة المسبب إلى السبب وفي ذلك تنبيه على أن ما نالوه من المنازل الرفيعة كان بسبب صدق القول والنية.
وقال بعضهم: إن هذا التنبيه قد يحصل على الاعتبار الأول لأن الصدق قد تجوز به عن توفية الأمور الفاضلة حقها للزوم الصدق لها حتى كأنها لا توجد بدونه ويكفي مثله في ذلك التنبيه وهذا كما قالوا: أن أبا لهب يشير إلى أنه جهنمي وفيه خفاء كما لا يخفى. ويجوز إلى يراد بالقدم المقام بإطلاق الحال وإرادة المحل، وعن الأزهري أن القدم الشيء الذي تقدمه قدامك ليكون عدة لك حين تقدم عليه ويشعر بأنه اسم مفعول وبه صرح بعضهم وقال إنه كالنقض، وقيل: إنه اسم للحسنى من العبد كما أن اليد اسم للحسنى من السيد وفعلوا ذلك للفرق بين العبد والسيد وهو من الغرابة كان، ولا يكاد يصح في قول ذي الرمة:
لكم قدم لا ينكر الناس أنها *** مع الحسب العادي طمت على البحر
وقوله:
وأنت امرؤ من أهل بيت ذؤابة *** لهم قدم معروفة في المفاخر
والسبق هو الأسبق إلى الذهن في ذلك وكذا في قول حسان:
لنا القدم العليا إليك وخلفنا *** لأولنا في طاعة الله تابع
وقول الآخر:
صل لذي العرض واتخذ قدما *** تنجيك يوم العثار والزلل
محتمل لسائر المعاني وهل يطلق على سابقة السوء أولًا الظاهر الأول وقد نص على ذلك أبو عبيدة. والكسائي.
وقال صاحب الانتصاف لم يسموا سابقة السوء قدمًا إما لكون المجاز لا يطرد وإما لأنه غلب في العرف على سابقة الخير وفيه نظر، وتفسير ابن عباس رضي الله تعالى عنهما له بالأجر وابن مسعود بالعمل لا يخرج عما ذكرنا من معانيه، وكذا تفسير علي كرم الله تعالى وجهه. وأبي سعيد الخدري. والحسن. وزيد بن أسلم له برأس الموجودات محمد صلى الله عليه وسلم يرجع إلى تفسيره بالخير والسعادة كما قاله جمع، وكونه صلى الله عليه وسلم خيرًا وسعادة للمؤمنين ما لا يمتري فيه مؤمن، أو يقال: إن المراد شفاعته صلى الله عليه وسلم والأمر في ذلك حينئذٍ في غاية الظهور وخص التبشير بالمؤمنين لأنه لا يتعلق بالكفار وتبشيرهم أن آمنوا راجع إلى تبشير المؤمنين وهذا بخلاف الإنذار فإنه يتعلق بالمؤمن والكافر ولذلك ذكره سبحانه ولم يذكر جل وعلا المنذر به للتعميم والتهويل، وذكر المبشر به على الوجه الذي ذكره لتقوى رغبة المؤمنين فيما يؤديهم إليه، وقدم الإنذار على التبشير لأن التخلية مقدمة على التحلية وإزالة ما لا ينبغي مقدمة في الرتبة على فعل ما ينبغي.
{قَالَ الكافرون} هم المتعجبون وإيرادهم بهذا العنوان على بابه، وترك العاطف لجريانه مجرى البيان للجملة التي دخل عليها همزة الإنكار أو لكونه استئنافًا مبنيًا على السؤال كأنه قيل: ماذا صنعوا بعد التعجب هل بقوا على التردد والاستبعاد أو قطعوا فيه بشيء؟ فقيل: قال الكافرون على طريقة التأكيد {إِنَّ هَذَا} أي ما أوحى إليه صلى الله عليه وسلم من الكتاب المنطوي على الإنذار والتبشير، وزعم الخازن أن في الكلام حذفًا أي أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر وبشر فلما جاءهم بالوحي وأنذرهم قال الكافرون إن هذا {لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} أي ظاهر.
وقرأ ابن كثير. والكوفيون {لساحر} على أن الإشارة إلى رجل وعنوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي قراءة أبي {مَا هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} وأرادوا بالسحر الحاصل بالمصدر، وفي هذا اعتراف بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر نازل من حضرة خلاق القوى والقدر ولكنهم يسمونه بما قالوا تماديًا في العناد كما هو شنشنة المكابر اللجوج ونشنشة المفحم المحجوج.


{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)}
{إِنَّ رَبَّكُمُ} استئناف سيق لإظهار بطلان تعجبهم المذكور وما تبعه من تلك المقالة الباطلة غب الإشارة إليه بالإنكار والتعجيب وحقق فيه حقية ما تعجبوا منه وصحة ما أنكروه بالتنبيه الإجمال على بعض ما يدل عليها من شؤون الخلق والتقدير وأحوال التكوين والتدبير ويرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير لاعترافهم به من غير نكير كما يعرب عنه غير ما آية في الكتاب الكريم، والتأكيد لمزيد الاعتناء ضمون الجملة على ما هو الظاهر أي أن ربكم ومالك أمركم الذي تعجبون من أن يرسل إليكم رجلًا منكم بالإنذار والتبشير وتعدون ما أوحى إليه من الكتاب سحرًا هو {الله الذى خَلَقَ السموات والارض *فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أي أوقات فالمراد من اليوم معناه اللغوي وهو مطلق الوقت. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن تلك الأيام من أيام الآخرة التي يوم منها كألف سنة مما تعدون، وقيل: هي مقدار ستة أيام من أيام الدنيا وهو الأنسب بالمقام لما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة في مثل تلك المدة اليسيرة ولأنه تعريف لنا بما نعرفه، ولا يمكن أن يراد باليوم اليوم المعروف لأنه كما قيل عبارة عن كون الشمس فوق الأرض وهو مما لا يتصور تحققه حين لا أرض ولا سماء، واليوم بهذا المعنى يسمى النهار المفرد، ويطلق اليوم أيضًا على مجموع ذلك النهار وليلته ومقدار ذلك حينئذٍ ممكن الإرادة هنا أيضًا. وقد صرح بعض الأكابر بأن المراد بالسموات ما عدا المحدد وأن اليوم هنا عبارة عن مدة دورة تامة له، ولا يخفى أن اليوم اللغوي يتناول هذا أيضًا إلا أن إرادته كإرادة مقدار مجموع النهار وليلته يحتاج إلى نقل وليس ذلك أمرًا معروفًا عند المخاطبين ليستغني عن النقل على أن القول به يدور على كون المحدد متحركًا بالحركة الوضعية ويحتاج ذلك إلى النقل أيضًا، وكذا يدور على كون المحدد خارجًا عن السموات المخلوقة في الأيام الست لكن ذلك لا يضر إذ الآيات والأخبار شاهدة بالخروج كما لا يخفى، وفي خلقها مدرجًا مع القدرة التامة على إبداعها في طرفة عين اعتبار للنظار وحث لهم على التأني في الأحوال والأطوار، وفيه أيضًا على ما صرح به بعض المحققين دليل على الاختيار، وأما تخصيص ذلك بالعدد المعين فقد قيل: إنه أمر قد استأثر بعلم ما يستدعيه علام الغيوب جلت قدرته ودقت حكمته. وقيل: إنه سبحانه جعل لكل من خلق مواد السموات وصورها وربط بعضها ببعض وخلق مادة الأرض وصورتها وربط إحداهما بالأخرى وقتًا فلذا صارت الأوقات ستًا وفيه تأمل، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الدخان تحقيق هذا المطلب على وجه ينكشف به الغبار عن بصائر الناظرين.
وإيثار جمع السموات لما هو المشهور من الإيذان بأنها اجرام مختلفة الطباع متباينة الآثار والأحكام، وتقديمها على الأرض إما لأنها أعظم منها خلقًا أو لأنها جارية مجرى الماعل والأرض جارية مجرى القابل على ما بين في موضعه، وتقديم الأرض عليها في آية طه لكونها أقرب إلى الحس وأظهر عنده وسيأتي أيضًا تحقيقه هناك إن شاء الله تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} على المعنى الذي أراده سبحانه وكف الكيف مشلولة، وقيل: الاستواء على العرش مجاز عن الملك والسلطان متفرع عن الكناية فيمن يجوز عليه القعود على السرير يقال: استوى فلان على سرير الملك ويراد منه ملك وإن لم يقعد على السرير أصلًا؛ وقيل: إن الاستواء عنى الاستيلاء وأرجعوه إلى صفة القدرة. وأنت تعلم أن هذا وأمثاله من المتشابه وللناس فيه مذاهب وما أشرنا إليه هو الذي عليه أكثر سلفة الأمة رضي الله تعالى عنهم، وقد صرح بعض أن الاستواء صفة غير الثمانية لا يعلم ما هي إلا من هي له والعجز عن درك الإدراك إدارك، واختار كثير من الخلف أن المراد بذلك الملك والسلطان وذكره لبيان جلالة ملكه وسلطانه سبحانه بعد بيان عظمة شأنه وسعة قدرته بما مر من خلق هاتيك الإجرام العظيمة، وقوله تعالى: {يُدَبّرُ الامر} استئناف لبيان حكمة استوائه جل وعلا على العرش وتقرير عظمته، والتدبير في اللغة النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود والمراد به هنا التقدير الجاري على وفق الحكمة والوجه الأتم الأكمل. وأخرج أبو الشيخ وغيره عن مجاهد أن المعنى يقضي الأمر والمراد بالأمر أمر الكائنات علويها وسفليها حتى العرش فأل فيه للعهد أي يقدر أمر ذلك كله على الوجه الفائق، والنمط اللائق حسا تقتضيه المصلحة وتستدعيه الحكمة ويدخل فيما ذكر ما تعجبوا منه دخولًا ظاهرًا، وزعم بعضهم أن المعنى يدبر ذلك على ما اقتضته حكمته ويهيء أسبابه بسبب تحريك العرش وهو فلك الإفلاك عندهم وبحركته يحرك غيره من الأفلاك الممثلة وغيرها لقوة نفسه، وقيل: لأن الكل في جوفه فيلزم من حركته حركته لزوم حركة المظروف لحركة الظرف وهو مبني على أن الظرف مكان طبيعي للمظروف وإلا ففيه نظر. وأنت تعلم أن مثل هذا الزعم على ما فيه مما لا يقبله الحدثون وسلف الأمة إذ لا يشهد له الكتاب ولا السنة وحينئذ فلا يفتى به وإن حكم القاضي، وجوز في الجملة أن تكون في محل النصب على أنها حال من ضمير {استوى} وأن تكون في محل الرفع على أنها خبر ثان لأن، وعلى كل حال فايثار صيغة المضارع للدلالة على تجدد التدبير واستمراره منه تاعلى، وقوله سبحانه: {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} بيان لاستبداده تعالى في التدبير والتقدير ونفي للشفاعة على أبلغ وجه فإن نفي جميع أفراد الشفيع ن الاستغراقية يستلزم نفي الشفاعة على أتم الوجوه، فلا حاجة إلى أن يقال: التقدير ما من شفاعة لشفيع، وفي ذلك أيضًا تقرير لعظمته سبحانه إثر تقرير، والاستثناء مفرغ من أعم الأوقات أي ما من شفيع يشفع لأحد في وقت من الأوقات إلا بعد إذنه تعالى المبني على الحكمة الباهرة وذلك عند كون الشفيع من المصطفين الأخيار والمشفوع له ممن يليق بالشفاعة.
وذهب القاضي إلى أن فيه ردًا على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله تعالى.
وتعقب بأنه غير تام لأنهم لما ادعوا شفاعتها فقد يدعون الإذن لها فكيف يتم هذا الرد ولا دلالة في الآية على أنهم لا يؤذن لهم، وما قيل: إنها دعوى غير مسلمة واحتمالها غير مجد لا فائدة فيه إلا أن يقال: مراده أن الأصنام لا تدلاك ولا تنطق فكونها ليس من شأنها أن يؤذن لها بديعي، وقوله عز شأنه: {ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ} استئناف لزيادة التقرير والمبالغة في التذكير ولتفريع الأمر بالعبادة بقوله سبحانه: {فاعبدوه} والإشارة إلى الذات الموصوف بتلك الصفات المقتضية لاستحقاق ما أخب به عنه وهو الله وربكم فانهما خبران لذلكم، وحيث كان وجه ثبوت ذلك له ما ذكر مما لا يوجد في غيره اقتضى انحصاره فيه وأفاد أن لا رب غيره ولا معبود سواه، ويجوز أن يكون الاسم الجليل نعتًا لاسم الإشارة و{رَبُّكُمْ} خبره وان يكون هو الخبر و{رَبُّكُمْ} بيان له أو بدل منه ولا يخلو الكلام من إفادة الانحصار، وإذا فرع الأمر المذكور على ذلك أفاد الأمر بعبادته سبحانه وحده، أي فاعبدوه سبحانه من غير أن تشركوا به شيئًا من ملك أو نبي فضلًا غن جماد لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع، وليس الداعي لهذا الحمل أن أصل العبادة ثابت لهم فيحمل الأمر بها على ذلك ليفيد لما قيل: من أن الخطاب للمشركين ولا عبادة مع الشرك {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} أي أتعلمون أن الأمر كل فصل فلا تتذكرون ذلك حتى تقفوا على فساد ما أنتم عليه فترتدعوا عنه وتعبدوا الله تعالى وحده، وإيثار {تَذَكَّرُونَ} على تفكرون للإيذان بظهور الأمر وأنه كالمعلوم الذي لا يفتقر إلى فكر تام ونظر كامل بل إلى مجرد التفات وإخطار بالبال وقوله سبحانه:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8